السر المكنون: قراءة في قصيدة(تقدس سرك) للشاعرة ميسون الارياني



الثلاثاء , 17 يونيو 2008 م  
صحيفة الثورة

عبد السلام الربيدي

أولا:النص

تقدس سرك

خذني إليّ

أجوب المرايا

يذوب اشتعالي على وجنتيك

أفيء اليك من الخوف

ترمي هواي على بعد شعرة

وتسكنني بفضاء بلا أنت

يمنحني الخوف شارته

وأغني على الجمر سرك

تذوي

وأذوي



ثانيا:القراءة
لا تنفذ القراءة إلا من العنوان ؛يستغلق النص إن لم يؤت من عتبته,وعتبة هذا النص عنوانه:"تقدس سرك".و إذا رأينا في العنوان علامة_وهو كذلك_,فإن هذه علامة تغدو في جملتها مثيرا يحفز الذخيرة النصية لدى المتلقي ليثير فيها تراثا من الاستخدامي العلامي لهذا التركيب"تقدس سرك"فتتجه تلك الذخيرة نحو البحث في المرجع الثقافي للعلامة لتقف على استخدام الفرق العرفانية(المتصوفة وغيرهم)لهذا الإصطلاح عند الحديث عن أقطابهم وأوليائهم وكانهم عن موتهم يموتون ومعهم اسرارهم محصنة لا يدركها احد ,فأسرارهم بذلم مقدسة,تقدست عن أن يباح بها او ان يدركها جاهل.هي أسرار لا تمس.وبنفس هذه السرية يتوجه الخطاب الأنثوي نحو المذكر. يريد الخطاب ان يبوح عن طريق الشعر,لكنه يخشى البوح,البوح حرام على الحريم,إنما سيباح/لن يباح به هو سر,سر مقدس,لا يطلع عليه القارئ ولا ينبغي له.والمخاطب الولي الحميم هو قطب النص صاحب الكرامة الذي دفنه النص بمجازيته,دفنه ليبقى سرا.كان الأجداد الجاهليون قد دفنوا الانثى خوفا على شرفها,فإنها هنا تدفن الذكر ليبقى سرا بين كلمات لا تبيح للقارئ أسرارها بسهولة.


خذني إلي:


يبدا البوح/اللابوح متوجها بالإلتماس الى المذكر _المحور الخارجي الفاعل في الممارسة الدالة للنص_الفاعل الن\مغيب في بطن النص (خذني)وهو طلب بالإنفكاك عن المحيط والاتصال بالمخاطب ,لكن هذه\ا الطلب_الصوت_ لا يصل الى منتهاه,لأنه صوت مكبوت فالأخذ يغدو ارتداديا(إلي)لان الصوت المكبوت لا يجرؤ أن يصل غلى الكاف(إليك),وإنما ينكفئ ليقف عند الياء ليترشح الموقف لحالة توحد نرفاني بين الطرفين يصبح فيها الأنا أنت والأنت انا ,فالإتصال هو الستر,لكنه كالانفصال الذي سينفى قريبا ,ليس إلا تقية يرواح بيتهما الخطاب الانثوي خوفا من قدرة القارئ على التحديد ,وحري بالخطاب المكبوت ان لا يحدد.


أجوب المرايا


في المرآة تغرق المرأة طول حياتها كما تعبر الشاعرة سلفيا بلاس ,وفي المرآة نتعرف على الآخر منذ المرحلة الاولى من حياتنا ,منذ (مرحلة المرآة)كما يسميها لاكان . في مرظىة الأخر تظهرمشخصات الذات,وفي مرىة الذكورة تظهر مشخصات الأنوثة والعكس بالعكس.وبذلك لا يتم الوجود الحقيقي للأنا إلا بالآخر.

مادامت المرآه من لوازم المرأة فلتكن بديلا لغويا(رغم انها في العمق لازمة لازمه لتحقق الذات باعتبار المرأة ممثلا للآخر) يغطي بهبه/يدفن به الخطاب الأنثوي المخاطب المذكر الذي تقدس سرة على ان يباح بالدوال المباشرة ,فليكن هو المرايا سترا له مرة اخرى.


يذوب اشتعالي على وجنتيك


في التوحد تنصهر الذات في الآخر فيذوب الإشتعال =(الابتعاد )في برد(اللقيا). وهنا تحدد المعالم للقرارئ من خلال (ياء)اشتعالي و(كاف)وجنتيك,وهنا يحقق الخطاب الإنفصال الدال على المكاشفة وليس الستر.

غير أن هذا التحديد تحديد تكتيكي مؤقت فهو ليس استراتيجة للخطاب الانثوي تمتد على طول النص ,وإنما استدعته ضرورة دلالية تكثفت في دال(الخوف): الخوف الذي يشكل المحرك اللواقعي للخطاب الأنثوي في النص,والمباطن النفسي للتعبير الشعري.


أفيء إليك من الخوف


لحظة اعتراف بشيئ من الذنب في كشف السر المقدس ,فالكشف شطحة جاءت إثر خوف ,ولو حصل الامن لظل السر في مكانه مدفونا لا تطاله الشطحات.إنه اعتراف المكره الذي لا يريد ان يبوح الا لضرورة الفيئ في ظلٍ ما عداه ملبد بالخوف.


ترمي هواي على بعد شعرة


لا ينسب الهوى إلا الى الذات ولا ينسب إلى الآخر الا في حدود الشعرة(التي تذكر بشهرة معاوية في خطورتها وخفائها ودلالتها على الإتصال والانفصال في آن) والهوى رغم نسبته الى الذات الانثوية الا ان الفاعلية (ترمي ) تنسب للمذكر المغيب.


ويتبقى تلك الشعرة بين الطرفين في الهوى ليتحقق الستر في الإتصال/الغنفصال في آن واحد.وتلك هي استراتيجية الإتصال والإنفصال الذي إقتضاها الخطاب الأنثوي ليحفظ السر الذي تقدس على ان يباح.وهو اعتذار عن ذلك الفيء المضطر في ظل قيض الواقع الوجودي الخانق .



وتسكنني في فضاء بلا انت


تستمر استراتيجية الاتصال والانفصال خوفا وتقية من الكشف في حال التلبس, يتأتى الإتصال من خلال علاقة الفاعلية والمفعولية في الفعل(تسكنني) فالفعل المذكر الغائب/المغيب والمفعول به الذات متوحدان,لكن هذا السكنى لا تتم لان الخطاب يخشى المغامرة في الكشف فيلجأ الى مفارقة تدميرية لمكان السكنى ؛ يلجا الى الطرف المضاد من المعادلة الغنفصال , فالسكنى في فضاء(والفضاء المكان الواسع غير المحدد.مرة اخرى يغيب التحديد) , وهذا الفضاء لا تسكنه _ أياما _ إيهاما _ الى الذات الانثوية (بلا انت) . وتلك مراوغة أنت هدفها دفن الآخر المذكر خوفا من الخارج المتربص بمعنى الخطاب , وتقديس لسرة الشريف.


يمنحني الخوف شارته


وهنا يعود الدال (الخوف) للظهور مرة أخرى في النص ليتخذ,عبر التكرار , سمة المهيمنة الدلالية الفاعلة في الممارسة النصية,وهو خوف مميز ,وصاحبه (الذات الأنثوية )مميزة به ,بل انه يمنح شارته لتلك الذات بوصفها نوعا من الهوية المميزة (هوية الأنثى الخوف). إنه الخوف من اللاحسم بين موقفي الإتصال والإنفصال إنه بصورة أعم الخوف الإجتماعي المغلف بقصة البوح من ألفها الى يائها..



واغني على الجمر سرك


(الجمر) هو سر الإشتعال السالف الذكر في النص ,لكن الموقف موقف غناء (أغني) , ولو لو تكن اللغة الشعرية موئل المتناقضات لما تنسى للخطاب أن يجمع الغناء بالجمر ولو لم يكن الخطاب خطابا انثويا لما جرت هذه المفارقة الفادحة هذاالمجرى(اي لو كان النغني ذكرا لما غنى على الجمر مخافة ان يباح سره). وبحكم المجاورة للجمر فإن الغناء لم يعد محتفظا بسماته الدلالية التي كانت له خارج النص أنه غناء الخوف , لا غناء الطرب, الخوف على (السر) , والسر موضوع الغناء , بل موضوع النص, إنه السر المكنون الذي لا ينبغي للغناء أن يبوح به, له فقط ان يهمهم بالسر للتخفيف من حرقات الوجد (وهل للغناء أللابوح بوجد حارق) , من هنا غدا الغناء(الشعر) جمرا حارقا , فهو بوح ولا بوح في آن , وكيف يكون بوحا وهو تغنٍ بالسر ؟ , وهل يكون التغني بالسر إلا مثل هذا الغناء في هذا النص ؟ غناء بما لا ينبغي أن يكشف ؛ غناء مكبوت , لحنه الترخيم حين يحذف الكاف و الإدغام حين يندمج مع الياء ونغمته التي تميز إنتقالاته نغمة الخوف. وتحضر الكاف في (سرك) لان الموقف موقف سر, فهي تحيل على المغيب المدفون تشريفا وتقديسا .



تذوي

وأذوي


ينتهي البوح/ اللابوح بموقف دفن تراجيدي لطرفين, موقف ينفصل فيه كل منهما عن الآخر كما يتحقق من خلال الفعلين المستقلين (تذوي ) و( أذوي) الموهمين بالفراق المؤبد عبر شعرة واو العطف .وهو ما يذكرنا بمصارع العشاق في التراث العربي ك(ليلى)و(المجنون) , حين كان يفرض عليهم المجتمع الإنفصال بسبب بوح المحب بذكر المحبوبة في خطابه الشعري فيكون الموت عندئذ تعبيرا عن رغبة الإتصال رغم إيهامه بالإنفصال.

و بالإستقرار على هذا الموقف التراجيدي ليكون الخطاب الأنثوي قد حقق استراتيجيته في الحفاظ على السر المكنون الذي تقدس على ان يباح , والموت خير حافظ للسر.


لكنه ليس أي موت , إنه موت الزهور التي(تذوي ) حتى يأتي الماء فتهتز وتعود سيرتها الأولى . أو فلنقل , جريا وراء دوال النص , حتى تأتي لحظة البوح الحقيقي من غير خوف على السر اللذي تقدس عن ان يباح .فالغناء به _الآن_ لا يطاق . وهل يطاق الغناء على الجمر؟!.

0 التعليقات:

Twitter Updates