قراءة في ديوان (( سأثقب بالعاشقين السماء ))




حاتم محسن شراح

هكذا وعلى إمتداد قصائد المجموعة يلاحظ القارئ أنه أمام صوت شعري جديد ومع مبدعة تسجل ـ عند أول الطريق ـ حضوراً يعكس نقاء الإنسان ، وصفاء القصيدة " في رحلتها الجديدة " ، كانت هذه آخر فقرات المقدمة التي قدم بها الأستاذ الدكتور / عبدالعزيز المقالح ديوان الشاعرة / ميسون الإرياني سأثقب بالعاشقين السماء " وهذه الكلمات المضيئة لدرب الشاعرة الشعري توعز ، وتتنبأ بشاعرة إذا ما أخذت كلمات الأستاذ الدكتور / عبدالعزيز المقالح بعين الاعتبار ، فمن خلال القراءة الأولى للديوان تتضح الرؤية بوجود شاعرة ترسخت أقدامها في أرضية الشعر ، ولم تظهر للأضواء بهذا الديوان إلا بعد أن خاضت غمار الشعر ، ولم تبرز هذه النصوص الناضجة إلا من خلال كم هائل من البدايات التي أبت الشاعرة أن يراها غيرها ، ولعل العنوان الجميل هو أول ما يدهش القارئ ، ويبعث على التأمل في ذلك التحليق الذي قامت به الشاعرة في سماء الشعر ، وإذا كان العنوان يمثل نصاً موازياً فتلك العتبات ، والتي أعني بها عبارتي جوته "الشاعر معلق بين السماء والأرض " ، وعبارتها " الشعر غاية ترتبط بالوجود كالجنة تماماً " ص9 ، وذلك الإهداء الذي شدتني عباراته الشعرية " شكراً لكم كنتم أجنحتي" ، هذه العبارات مع العنوان تمثل استنطاقاً لما في داخل الديوان فالعنوان يوحي بأن الشاعرة ترمي إلى اختراق سماء الشعر بعشاق الشعر الذين سيحلقون في هذه السماء الشعرية أثناء تلقيهم لقصائد الديوان ، ولعل هذه الرؤية تتنافى مع قول الشاعرة في قصيدة بعنوان " سفر الخطيئة " :

مد السحاب القناديل

أوقد من سكرة الحب ثوباً يراودني الجان

عنـــه

أزم الرماد الحزين

وأثقب بالعاشقين السماء لتغفر يا

شارد الغيث ذنبك ص79

إن الشعور بالذنب ، يمثل منطلقاً لنفس تواقة إلى الطهر ، والتخلص من الذنب ، وهذه الحساسية هي التي تصنع الشعر ، ولكن أن تصبح الصيغة سأثقب فالمدلول هنا يوحي بأن هناك تمنعاً ، وثمة جدار أو عازل يتطلب فعل الثقب ، وإن كانت الشاعرة قد اخترقت هذه السماء ، ولم تثقبها فقط ، ولعل الصورة الشعرية الحديثة جداً وهي استعارة الموقف ، فالشعر يمثل الابتهال ، والدعاء ، والاستغفار ، والاستعطاف ، والسماء ، هي الفضاء الشعري ، والعاشقون هم من يتلقى الشعر ، ولعل القصائد التي توحي بهذا المعنى ومنها القصيدة التي استوحت الشاعرة منها العنوان ، وتبقى جملة العنوان الفعلية " سأثقب بالعاشقين السماء " تجعلنا نقف وقفة إعجاب بالعنوان المجازي الإستعاري الجميل الذي يمثل مغايرة خالفت فيه زملاءها الشعراء الذين تتنوع مشاربهم في إختيار العناوين ، وهي هنا ومن خلال الفعل سأثقب المسبوق بالسين التي تحول الفعل المضارع إلى المستقبل برغم أنه يدل على وقوع الحدث في الحاضر ، والفعل ثقب فعل متعد يلزمه فاعل ومفعول به ، والفاعل يلزمه واسطة فالإنسان لا يستطيع أن يثقب جداراً وشيئاً ما إلا بواسطة مسمار مثلاً والشاعرة جعلت العاشقين هم أداة الثقب ، وهي هنا تراهن على المتلقي في العملية الإبداعية الشعرية فلولا هذا المتلقي لما وجد الشعر ، فالمتلقي هو المعني بقول الشعر ، ويجب أن ينتقي الشاعر أجمل ما لديه ليمتع المتلقي ، وهذا ما قامت به الشاعرة منذ أول قصيدة في الديوان " حين تفر الخطايا " :
ماذا تبقى من الليل غيري
ومن ذا لقديسة

تستهل الدعاء بأغنية للمساكين

للعالمين !
تعلم فتنتها كيف تذروا المعاني
حنيناً يلملمنا
في المساء ص13

هذه القصيدة هي تمثل مستهلاً رائعاً للديوان تخاتلنا فيه الشاعرة لتمرر علينا رؤيتها فالقصائد في هذا الديوان مثل ترانيم ، وأدعية ، وأغان للمساكين ، ولفظة المساكين هنا يجب أن تحمل مدلولاً شعرياً في هذا النص فالسكون والهدوء ، والرضوخ أحياناً بدافع ما هو ما يجعل الدلالة تتجه إلى من إتصف بصفة من الصفات السابقة ، والشعر هو الذي يهز كيان الإنسان الهادئ ، ويحرك المشاعر الساكنة ، ويبعث الحياة في الفكر الجامد ، ويطرد الملل من رتابة الحياة ، وفي قصيدة " رقية للجنون " تقول لإثبات ماذهبنا إليه :


المنازل حين تزور قيثارة العشق فينا
سيمحو المساء قلوب العفاريت

ينسج ورد السلام

على قارعات المدى المستكين

على ضفتي قلبه

إذ يراود عن صفة الحب وقته

لميلادها دمع أمي

نجوم يطرزها بي .. بها إذ يذوب على شفتينا

هواها

المنازل حين ستفضح آلامنا للجنود ص118
إن ذلك التجاوز الذي يعزى لقصيدة التفعيلة مثل قولها" لميلادها دمع أمي" حيث تم إقحام الضمير الهاء في لميلادها ، فالوزن يجعل الشاعر يحشو بعض المفردات أو يحركها أو يضطر للوقوف وكل ذلك لأجل الوزن ، والشاعرة تستخدم هذه التجاوزات لكي تمنح القصيدة وهجاً من الخروج على المألوف اللغوي ، والتهويم في سماء الشعر دون توجيه من أحد فالشاعر يخرج من الفضاء المغلق ، ويتفلت من أغلال اللغة ما عَنَّ له ذلك ، ولهذا قال النقاد بالضرورات الشعرية ، وفي الحقيقة ما هي إلا خروقات لغوية أوصلت النقاد إلى أن يقولوا جاز للشعراء مالم يجز لغيرهم ، والقصيدة الناضجة لا يضيرها فلج في الأسنان أو خال في الوجه بل أحياناً تكون زينة للقصيدة فأبيات المتنبي وأبي تمام التي عابهم عليها النحاة هي التي تم تخليدها في شواهد النحو والبلاغة . في قصيدة بعنوان " وطن بثمانية رؤوس " تبرز الشاعرة عبر قصيدة نثر متكاملة حيث تنعدم الغنائية ، ويبرز السرد الجميل ، واللغة التقريرية المطعمة بالمجاز لكسر حدة السرد تقول الشاعرة :
اليوم متجرد من رأسه
صوته خريفي الإشتعال
أضلاعه تؤرشف البرد
يلقَّن أنفاسه التائهين رقية تقيهم الطيبة
طالما ذكرني ذلك بالنمل
بنساء يفضلن الصيف على البقاء بلا أوراق
للطـــــالع ص33

إن إتقان الشاعرة لقصيدة النثر برز من خلال النصوص النثرية التي في الديوان برغم طغيان قصيدة التفعيلة ، والتي برغم تقادم الزمن ، لم يستطع إلا قلة البروز ، والتجاوز من خلالها ، والرهان سيكون على إسقاط تقنيات قصيدة النثر على قصيدة التفعيلة ، وهذا ما قامت به الشاعرة في قصائد ديوانها ، فاللغة الشعرية هي التي صبغت قصائد التفعيلة بشاعرية آسرة من خلال الصورة الشعرية الحديثة ومن أمثلة ذلك قصيدة " الطريق إلى الأجداث " :

إني هنا كي أنحت الصفصاف في

نبضي على نغم يهيم البحر في عينيه

أحتضن السهول
وليلتي

إني أتخذت النار مهداً لاستغاثاتي

فصمتاً !

يازنابق قبلتي السكرى

أصيخي للمرايا

أيقضيه براقك الغافي على ظل الطريق

لا ريح تبكي نبض أنفاسي هناك
ولا رفيق

إن هذه القصيدة تمثل تشخيص الأشياء كالبحر ، والسهول ، والزنابق ، والطريق ، والأنفاس ، والشاعرة بهذه الصورة الاستعارية تمنح القصيدة بعداً جمالياً يمنح المتلقي متعة القراءة ، ولذة تذوق الشعر الذي ينبعث من كل كلمة في القصيدة ، وبرغم التناقضات ، وتجريد الظواهر واجتماعها فالبحر ، والسهول ، والنار ، والصفصاف ، والزنابق ، والمرايا ، والظل ، والطريق ، ويتبقى أن نشير إلى أن ما يجمع هذه الظواهر هو الشعر والشعر فقط ، والشاعرة هي من تتعاطى مع هذه الظواهر فتنحت الصفصاف ، وتحتضن السهول ، وتتخذ النار مهداً لماذا؟! لاستغاثاتها ، ويتطلب هذه الاستغاثة الصمت الذي تطلبه ، وتستجديه من الزنابق ، وأي زنابق إنها زنابق قبلتها السكرى ، وترجو منها أن تصيخ السمع للمرايا ، وأي مرايا إن الشاعرة تنطلق من اللاوعي تجعل الشعر ينطلق على سجيته ، وليس هناك ما يدعو إلى محاولة إستكناه المعنى أو المدلول فالشعر في هذا العصر يجب أن يتفرغ لغاية الشعر ، وعليه أن يحشد ما بوسعه من طاقات لغوية ، وإيحائية ، وجمالية في سبيل إبراز الجانب الجمالي للقصيدة من خلال اللغة الشعرية ، والتي ومن خلال لغة الشاعرة وقاموسها الشعري يتبين أن الشاعرة تتمتع بقاموس شعري جميل ، وثري بالألفاظ الموحية وفي هذا النص من أمثال الصفصاف ، نبضي ، نغم ، يهيم ، أحتضن ، مهداً ، زنابق ، قبلتي ، أصيخي ، ... الخ . ومن القصائد النثرية التي تجيدها الشاعرة على نحو تغاير فيه الآخرين في قصيدة بعنوان هكذا تقول :

الحلم يتكدس عند رائحة إسمك
كل يوم ملاك عند ضفة الكون
يداعب نجمتنا
يقفز
تتنهد الريح

تنساب ضفائر ميعادنا عند نبوءات لم تحترق هكذا
القبو الممتد سراب البصر

يجمد ألحان المساء ص47

إن الشاعرة تمثل جيل ما بعد الحداثة من خلال التداخل ، والتناقض ، وإنتهاك النظام فحتى قصيدة النثر حين يتم التنظير لها ، وإخراج العاطفة ، والمشاعر الإنسانية ، وجعلها وعاءً فكرياً هذا إذا كانت تحمل رؤية فكرية أو فلسفية أما شاعرتنا فقد جاءت بنص يفتح الأفاق لقصيدة النثر ، لتكون قابلة لكل الأغراض فتقييد الشاعر ، ووضع الحواجز ، والمعايير تعد من الأمور التي يسعى الشاعر دائماً إلى كسرها ، واختراق هذه النظم ، ومن ثم يتم وضع معايير ونظم لهذا الاختراق ونعود إلى المقولة التي تقول أن اللا قاعدة هي القاعدة الذهبية ، وهذا برغم كون الشاعرة قد أبدعت في شعر التفعيلة ، وكان أجمل ما حافظت عليه هو ذلك الزخم الشعري المتمثل في اللغة الشعرية ، والعناية بالمفردة الشعرية ولعل هاجس الحب ، والعشق هو الطاغي على قصائد الديوان ، ولعل العنوان جعل الشاعرة تنتقي قصائد الديوان البحرين .

0 التعليقات:

Twitter Updates